أسكندرانية
عدد المساهمات : 10 تاريخ التسجيل : 06/05/2011
| موضوع: الوهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الجمعة مايو 06, 2011 12:30 pm | |
| أعرف شخصاً ذا نفس قلقة، وكان له قريب عاقل، وقد حصل نقاش في موضوع يسير جداً، فصرم الشخصُ ذو النفسِ القلقةِ قَرِيْبَهُ، وعاداه، وصار لا يُسَلِّم عليه، ولا يرد سلامه، بل وينظر إليه شزراً، بل أصبح يتكلم فيه، ويذمه، واستمرت تلك الحال سنوات.
وصاحبنا العاقل يرى ويسمع، ولكنه آثر الصمت، وتَرْكَ المهاترة؛ بل إنه يدعو لقريبه دائماً.
يقول صاحبنا العاقل: " في يوم من الأيام كنت أصلي العصر، وقد دعوت في تلك الصلاة لصاحبي من كل قلبي؛ لأنني تأذيت منه، وطالت تلك الأذيةُ بعضَ أقاربي، وصار يحرض بعض أقاربه عليّ. فلما انصرفت من تلك الصلاة، والتفت وإذا به قد صلى في مسجد آخر، ودخل مسجدنا يريد إمام المسجد في موضوع خاص به. فلما رآني عاد القهقرى، فلحقت به، وأوقفته، وقلت له: يا أبا فلان، والله إنني أدعو لك، وآخر ذلك قد كان في تلك الصلاة؛ فإلى متى ستستمر على تلك الحال؟ وما الذي نالك مني طيلة السنوات الماضية؟ وصار بيني وبينه حديث حول هذا الشأن.
وبعد ذلك رأيت تغيراً في وجهه، وقال لي: والله إنني ما كنت أظنك كذلك، كنت أظن أنك تكرهني، وتعاديني، وتُغْري بي، وكنت أتصور أنك لا تراني شيئاً.
فقال له صاحبه العاقل: وهل رأيت شيئاً من ذلك، أو سمعت به؟
قال: لا، وإنما هكذا كنت أتصور.
فقال له صاحبه: وهل ستستمر على هذه الحال؟
قال: لا، أنا الآن عرفتك جيداً، وسأبدأ بمراجعة نفسي".
يقول صاحبنا العاقل: "وبعدها صار يحترمني، وعادت المياه إلى مجاريها".
وأعرف إنساناً مسكوناً بالأوهام؛ فلو أثنيت عليه، أو شكرته لخشيَ أن تصيبه بالعين، بل إنك لو نصحته، وأبديت ملاحظة عليه لقال لك: اذكرِ الله؛ خشية أن تصيبه بعين.
وتلاحظ في أيام الامتحانات أن كثيراً من الطلاب تصيبهم الوساوس؛ خوفاً من العين؛ فترى الطالب قد أهمل المذاكرة تماماً؛ فإذا قرب الامتحان استنفر كافة قواه، وربما لا تواتيه نفسه على ذلك؛ لأنه قد حَمَّلها ما لا تطيق، ولم يتدرج في المذاكرة؛ فبمجرد شعوره بالملل، أو قلة الاستيعاب تراه يَتَّهم فلاناً أو فلاناً أنه أصابه بعين، ولم يعد له قدرة على المذاكرة والتحصيل، وصار يبحث عمن يَرْقِيْهِ، أو يأخذ له شيئاً من آثارِ مَنْ يَتَّهمه بأنه عانه.
ولا ريب أن العين حق، وأنها تورد الرجل القبر، والبعير القِدْر، وأنه لو كان شيئٌ سابق القدر لسبقته العين "كما صح ذلك عن النبي".
ولكن الخطأ في جعلها شَمَّاعة يُعَلَّق عليها كلُّ إخفاقٍ، وعجزٍ، وكسل. فمن خلال ما ذُكِرَ وغيره كثير، يتبين لنا أمورٌ، ومنها ما نحن بصدده، وهو موضوع الوهم، فترى أن الوهم قد سيطر على نفوس كثيرين، وصارت الخيالات والأوهام عندهم حقائق لا تقبل الجدل.
وهذا يرينا أن الوهم مرض خطير، وقد يدخل ضمن قائمة الأمراض المعدية؛ فهو مَرَضٌ من جهة إضراره بصاحبه، بل ربما فتك به.
وهو - في الوقت نفسه - مرض مُعْدٍ؛ من جهة أن من جالس المصابين به أوشك أن ينتقل إليه ذلك الداء.
والذي يتأمل حياة الناس يلاحظ أن المبتلين بهذا الداء كثير، وَهُمْ ما بين مقلٍّ ومستكثر.
فلا غرو - إذاً - أن تُوْجَدَ العداوات، والبغضاء التي منشؤها الأوهام؛ فتجد من الناس من يتصور أن فلاناً يبغضه، ويقف في طريقه، ويتربص به الدوائر، وربما سمعتَ هذا الكلام، فانطلى عليك، وصرت تبغض ذلك الشخص الظالم في نظرك.
فإذا حققت الأمر وجدت أن الحقيقةَ بخلاف ما بلغك تماماً، بل ربما يكون ذلك الشخص الذي يُتَصَوَّر أنه ظالم حقود حسود أنه هو المظلوم، بل قد يكون لا يعرف ذلك الشخص الذي يرميه بتلك العظائم.
ومن صور الوهم ما تجده من نَفَرٍ من الناس؛ حيث تقوم بعض تصرفاتهم على ما يرونه من الرؤى، أو ما يُفسَّر لهم منها؛ فإذا رأى واحدهم رؤيا عبَّرها لنفسه، أو عرضها على أيِّ مُعَبِّر كان، فيقبلها وكأنها وحيٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فَيُرَتِّبُ على ذلك عداوات، وصداقات، ومواقف مع أن الأمر لا يعدو كونه ظنوناً قد يكون خطؤها أكثر من صوابها.
ومن صور الوهم ما تجده عند فئام من الناس؛ فتراه يخاف من أمور كثيرة، وهي - في الحقيقة - مجرد أوهام. وربَّ أمورٍ لا تضيرك ضيرةً *** وللقلب من مخشاتهن وجيبُ
وهذا يؤكد لنا ضرورة التعامل مع الحقائق، والبعد عن الأوهام الكاذبة والظنون السيئة، والتحليلات الخاطئة؛ حتى تكون علاقاتنا، وأحكامنا مبنية على أساس متين لا على كَثِيْبٍ مهيلٍ.
ومن بُلِيَ بالوهم، وزاد ذلك عنده فليستعذ بالله، ويُحْسنَ أعماله، ويصلحَ نيَّاتِه؛ لأنه: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وعادى محبيه بقول عُدَاتِهِ وصدَّق ما يعتاده من توهمِ *** وأصبح في ليل من الشك مُظْلِمِ
وإذا كان الإنسان يعاني من الأوهام معاناةً شديدةً فليجاهد نفسه على تركها، وليستشر في أمره. وإذا أعيته الحيلة، وكان ذلك خارجاً عن طوره فليعرض حاله على طبيب نفسي مختص؛ فربما كان فيه نوع من أنواع الوساوس: القهري أو غيره.
وعلاج ذلك ميسور عند الأطباء النفسيين؛ فلعله يجد ما يشفيه ويريحه، ويريح أقاربه ومخالطيه.
أما أن يدع أمراضه، وطبيعته القلقة تقوده إلى إساءة الظنون، وإفساد العلاقات، وإيذاء الأبرياء فليس ذلك من الحزم ولا العقل في شيء. | |
|